أحد أكثر الأفكار شيوعاً في أوساط غير قليل من المثقفين العرب هي فكرة فشل الحداثة في بلادنا. فقد احتفى أنصار هذه الفكرة في مصر بالمحاضرة التي ألقاها المفكر الجزائري- الفرنسي المعروف محمد أركون في معرض القاهرة الدولي للكتاب قبل أيام عن "سوسيولوجيا فشل الحداثة الفكرية في السياقات الإسلامية". ولاشك في أن معظم الفئات الاجتماعية في مجتمعاتنا العربية مازالت تعيش في العصر قبل الحديث, وأن ما صار حديثاً في هذه المجتمعات هو قشرة على سطحها في الغالب الأعم. وهذا واقع يعرفه دارسو الاجتماع العربي ويختلفون في تفسير أسبابه, بما في ذلك السبب الذي يعتبره بعضهم رئيسياً وهو فشل عملية التحديث التي يرونها سبيلاً وحيداً إلى التقدم. غير أن السؤال الذي ينبغي أن نقف أمامه هو: هل ما يقصدونه, وما حدث فعلاً في كثير من بلادنا, كان اتجاهاً إلى التحديث, أي الانتقال من الحالة التقليدية إلى حالة حديثة, أم إلى التغريب, أي الاقتداء بنمط التطور الغربي باعتباره النموذج الوحيد للتقدم؟ فما حدث, في جانب أساسي منه, لم يكن بالضرورة إخفاقاً بمقدار ما هو عدم تطابق بين الواقع والمثال الحداثي الذي قدمته نظرية التحديث لأنه يقوم على نموذج تغريبي أكثر من تحديثي. ففضلاً عن منطلقات هذه النظرية ومرجعيتها ومنهجها, فقد قدمت معايير للحداثة مستقاة من المسار الغربي للتقدم, كما فعل أبرز رموزها, مثل ليرنر ودويتش وليبست وكونهاوزر وكوتريت وكولمان, وغيرهم. فعلى سبيل المثال, ربط "دويتش" الحداثة بتحقيق التعبئة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي وتقويض الهياكل الثقافية التقليدية, بحيث يصبح الناس أكثر استعداداً لأنماط جديدة من التنشئة والسلوك. وتحدث في كتابه "التعبئة الاجتماعية والتنمية السياسية" الصادر عام 1961, عن عملية اجتماعية محورها الابتعاد عن حياة الانغلاق في الأطر المحلية التقليدية. كما ذهب دانيل ليرنر إلى أن التحديث الاقتصادي والاجتماعي يعني القضاء على الأمية وارتفاع مستوى التعليم وانتشار وسائل الإعلام, مما يؤدي إلى اكتساب الناس نظرة أوسع تسامحاً تجاه الآخرين وانفتاحاً على الحياة العامة وانشغالاً بالنشاط السياسي, كنتيجة للتدفق المتنوع للمعلومات وإمكانية الحصول عليها وفق ما أسهب في شرحه في كتابه "تجاوز المجتمع التقليدي" الذي يعد أحد معالم نظرية التحديث التي آمن بها كثير من المثقفين العرب. فالتقدم الاقتصادي والاجتماعي, وفقاً لهذه النظرية, يوسع مدارك الناس, ويدعم اتجاه التسامح عندهم, ويحول دون اقتناعهم بالمذاهب المتطرفة, ومن ثم يزيد من قدرتهم على الاختيار العقلاني وفقا لسيمون مارتن ليبست في كتابه "الإنسان السياسي: الأسس الاجتماعية للسياسة". وقد عبر رواد التحديث عن التقدم الاقتصادي والاجتماعي باستخدام مجموعة كبيرة من المؤشرات, أهمها معدل الدخل القومي الإجمالي, ومستوى التصنيع, والتحضر (التمدين) والتعليم, ووسائل الإعلام. وطالما أنه من الممكن تحقيق كل ذلك, كما اعتقدوا, كان من الطبيعي أن يتوقعوا حصول تقدم سريع نحو التحديث, ونمو طبقة وسطى عصرية تحل محل النخب التقليدية من ملاك أرض وشيوخ عشائر ومساجد وقادة محليين. وتصوروا أنه في مثل هذا السياق يمكن أن توجد فرص أفضل لإشباع حاجات مختلف الجماعات, ولحل مشكلات توزيع الدخل, مما يدعم الاتجاه إلى التسامح والتعاون والمواءمة السياسية. كما أنه عندما يستطيع الناس تجاوز بيئاتهم التقليدية المغلقة والتعامل مع غيرهم, ستزداد الاتجاهات الديمقراطية المنفتحة حسب ما اعتقده وليام كارنهاوزر في كتابه "سياسات المجتمع الجماهيري". غير أن هذه المعايير والمؤشرات التي استندوا عليها كانت بعيدة عن الواقع بالرغم من اعتماد بعضهم على البحث الميداني التجريبي, مثل دانييل ليرنر الذي قام بدراسة على 50 دولة, وتأكد من وجود ارتباطات إحصائية بين مستوى التعليم ودرجة التحضر ومدى انتشار وسائل الاتصال الجماهيري, وبين تزايد الاتجاه للحداثة. وتوقع بناء على ذلك تراجع النزعات المنغلقة والعدائية, وتزايد احتمالات الحل السلمي للصراعات. وهكذا اقترن ظهور مدرسة التحديث, وما حصلت عليه من مكانة مرموقة أكاديمياً, بنزعة متفائلة تجاه مستقبل الدول النامية, وبأن هذه الدول ستسلك اتجاه التطور الغربي نفسه. وكان هذا هو أيضاً مصدر ضعفها, لأن التفاؤل كان مبالغاً فيه, ولأنها انطلقت من منظور ضيق جعل التحديث مرادفاً تقريباً للتغريب. ولذلك كان من الضروري أن تتعرض هذه المدرسة لانتقادات أكاديمية لاذعة منذ أواخر الستينيات, في الوقت الذي ظل كثيرون من المثقفين العرب مفتونين بها إلى حد التقديس. وكان صمويل هنتنغتون (صاحب نظرية صدام الحضارات بعد ذلك) هو أول عالم سياسة بارز يعتلي منبر النقد لنظرية التحديث, في كتابه الشهير عن "النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة" الصادر عام 1968. فقد شكك في مصداقية المقولات المركزية لهذه النظرية, وفي مقدمتها مقولة أن التحديث الاقتصادي والاجتماعي -بالطريقة التي تكاد تجعله مرادفاً للتغريب- يدعم ثقافة سياسية واجتماعية حديثة. وقدم طرحاً مغايراً مؤداه أن الصراعات التقليدية في المجتمع والسياسة لا تتقلص عبر هذا التحديث, وإنما على العكس قد تتفاقم. وبعبارة أخرى رأى أن تقويض الهياكل التقليدية يقود إلى تصاعد الصراعات وتزايد حدتها. وتوقع في وقت مبكر ظهور الأصولية الدينية حاملة معها نذر صدامات سياسية عنيفة, فضلاً عن تزايد الانقسامات الثقافية. وفسر ذلك بأنه عندما يُفرض التحديث من أعلى أو من الخارج, تنتج عنه حالة من عدم اليقين أكثر من أي وقت مضى, بل قد ينظر بعض قطاعات المجتمع إلى هذا التطور كنوع من التهديد للهوية وما يرتبط بها من قيم وأنماط حياة. ومعنى ذلك أن التحديث بهذه الطريقة لا يدعم الحداثة التي اعتقد التحديثيون أنها بازغة لا محالة. وقد وضع "هنتنغتون" يده على أحد الاختلالات الجوهرية في نظرية التحديث وهو ذلك المتعلق بالصعوبات التي تواجه تحقيق التقدم الاقتصادي بالمقارنة مع معدلات التغير الاجتماعي. وقاده هذا إلى التوقف عند المشكلات التي تظهر عندما يعجز الاقتصاد عن مواكبة التغير الاجتماعي المترتب على الانتقال من الريف إلى الحضر (المدينة) وانتشار التعليم والتعرض لوسائل الاتصال الحديثة. فهذا التغير الاجتماعي, الذي يتسم بالسرعة عادة, يخلق مطالب وتوقعات اقتصادية. وإذا لم يتمكن النمو الاقتصادي, بفرض حدوثه أصلاً, من تلبيتها, تحدث توترات شديدة وتصاب قطاعات من المجتمع بالاغتراب. وعندئذ يجد التطرف السياسي والديني بيئة مواتية, ومن ثم تزداد صعوبة تطور ثقافة سياسية واجتماعية حديثة. وللأمانة ينبغي الإقرار بأن بعض رواد التحديث تنبهوا إلى ذلك. لكنهم لم يعطوه الاهتمام الكافي. فعلى سبيل المثال, وجد ليرنر اختلافات بين معدلات تحقيق مؤشرات التحديث, مما يؤدي إلى عدم توازن بينها, واكتشف أن هذا النوع من عدم التوازن يميل لأن يصبح دائرياً, ويؤثر سلبياً على التنظيم الاجتماعي. لكنه لم يمد هذا الاستنتاج إلى نهايته, لأن هذا كان يعني مراجعة جوهرية لأهم مقولات نظرية التحديث. وفي مجال انتقاد هذه النظرية, لم يكن من الصعب إيجاد حالات تمثل انحرافات واضحة عن العلاقة الارتباطية التي دافعت عنها. وتعتبر الهند أبرز هذه الحالات, حيث كانت تصنف عادة عند مستوى منخفض من التقدم الاقتصادي- الاجتماعي. ومع ذلك لا يمكن إنكار إنجازها الديمقراطي, وما ارتبط به من ثقافة سياسية أتاحت حدوث هذا الإنجاز واستمراره. ومن الانتقادات الأساسية الأخرى لنظرية التحديث, النقد الذي أظهر افتقادها البعد التاريخي, وهذا ما اكتشفه "روبرت دال", في كتابه "لبولياركية: المشاركة والمعارضة" الصادر عام 1971, عندما تذكر أن الولايات المتحدة كانت لا تزال في مستوى منخفض من التقدم الاقتصادي بمعيار الناتج المحلي الإجمالي, ومن التحضر حيث كانت الغالبية الساحقة من سكانها ريفيين, حينما كتب "دي توكفيل" كتابه الشهير "الديمقراطية في أميركا". وقال إن أي عالم اجتماع يحلل هذا الوضع باستخدام نظرية التحديث, كان من الممكن أن يخلص إلى أنه في ثلاثينيات القرن التاسع عشر كانت هناك فرصة ضئيلة جداً لتحديث أميركا, وأردف: "ومع ذلك أعتقد أن معظمنا سيظل يجد كتاب توكفيل الذي صدر في ذلك الوقت أكثر إقناعاً". وهكذا تعرضت نظرية التحديث لانتقادات جوهرية أنزلتها من على العرض التي جلست عليها في بداية ظهورها, وأظهرت حدود صلاحيتها في مجتمعات تختلف كثيراً في مسار تطورها عما حدث في الغرب. ومع ذلك مازال أنصارها العرب معتقدين في صحتها, ومقتنعين بأن المشكلة في مجتمعاتنا وشعوبنا وثقافتنا, وليس في الاتجاه الذي أريد لنا أن نسلكه من أجل التقدم.